الاصداراتالدراسات الاستراتيجيةتقارير جديد

العملية العسكرية التركية في عفرين الأهداف-الدلالات والتداعيات

مقدمة

تختلف الظروف المحيطة بالتدخل العسكري التركي في عفرين ضمن ما سمي بعملية “غصن الزيتون” عن تلك التي أحاطت بعملية  “درع الفرات” في عام 2016، فرغم أن العملية السابقة كانت قد تضمنت في أهدافها منع المسلحين الأكراد من وصل مناطق عفرين بمناطق سيطرتهم في حوض الفرات، إلا أنها  اندرجت ضمن الجهود الدولية لمحاربة تنظيم “داعش”، في حين أن العملية الحالية في عفرين شهدت تطورًا في الموقف التركي كونها تستهدف وحدات حماية الشعب الكردية YPG المدعومة دوليًا والحليف الأبرز للولايات المتحدة في الحرب السورية، وهي الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تصنفه تركيا “إرهابيًا” و تعتبره امتدادًا لحزب العمال الكردستاني PKK.

وكانت رئاسة الأركان التركية قد أعلنت مساء السبت 20 كانون الثاني/يناير 2018 في بيان لها عن بدء عملية عسكرية في عفرين السورية أطلقت عليها اسم “غصن الزيتون” بالتعاون بين القوات العسكرية التركية ووحدات من الجيش السوري الحر، وذلك بعد أيام من القصف المدفعي استهدف مواقع الوحدات الكردية في تلك المنطقة، وقال البيان: “إنَّ العملية تهدف لإرساء الأمن والاستقرار على حدودنا وفي المنطقة والقضاء على إرهابيي PKK\PYD\YPG وداعش في عفرين وإنقاذ شعب المنطقة من قمع وظلم الإرهابيين”[1].

وجاء القرار التركي الدقيق والمدفوع بحماية المصالح القومية التركية في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات عدة تمس النظام الإقليمي والدولي، وفي وقت تشهد فيه الساحة السورية نفسها معارك مشتعلة قرب عفرين في إدلب ومحيطها، بالإضافة لوجود جهود دولية لبناء خطوات في التسوية السياسية، والتي تعتبر تركيا أحد أهم رعاتها، وهو ما استوجب قيام أنقرة بأنشطة دبلوماسية لا تقل أهميتها عن العمليات العسكرية على الأرض، في سبيل تحييد المواقف الدولية قبيل وبعد بدء العمليات العسكرية.

أهداف العملية ودوافع تركيا

تحضّرت تركيا للتدخل في عفرين منذ فترة، وازداد الحديث العام الماضي في الأوساط الرسمية التركية عن عملية عسكرية في عفرين قد تحمل اسم “سيف الفرات”، وسعت تركيا إبان عملية درع الفرات إلى دخول منبج وطرد مسلحي الوحدات الكردية وقوات سورية الديمقراطية شرق الفرات، لكن الموقفين الروسي والأمريكي آنذاك حالا دون استمرار العمليات العسكرية التركية. وساهمت الحالة السياسية الداخلية التي تعيشها تركيا نفسها، وتعقّد المشهد السوري بشكل عام في تأخير العملية التركية التي رُسمت ملامحها سابقًا.

وبعد فشل محاولة الانقلاب 2016 بدت المؤسسات العسكرية والسياسية التركية أكثر انسجامًا مع ميل واضح للتقارب مع روسيا وإيران، واستشعرت تركيا خطر نوايا الولايات المتحدة بالهجوم على إدلب والتوجه نحو الساحل السوري بحجة مكافحة “جبهة النصرة” بالاعتماد على ذراعها وحدات “حماية الشعب الكردية” تحت مظلة “قوات سورية الديمقراطية”.

ومع نشر تركيا لثلاث نقاط مراقبة جنوب عفرين نهاية العام الماضي ضمن تطبيق اتفاق “خفض التصعيد” في المنطقة الرابعة والمتمخض عن مسار “أستانة”، ازداد التحضير التركي لعمل عسكري بدا قريبًا لطرد مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي من عفرين.

ويتمثّل أهم الأهداف المعلنة لتركيا من العملية في إفشال مشروع إنشاء كيان كردي على حدودها الجنوبية، يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تعتبره أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، أو على الأقل تقويض وجود مثل هذا الكيان. حيث تُعتبر عفرين أحد المناطق الثلاث لما يعرف بـ “فدرالية روج آفا” أو “فدرالية غرب كردستان”[2]، ما يقلل بالتالي من فرص قيام أركان هذا الكيان، ومنع فرص تحقيق تواصل جغرافي بين مناطقه.

ومع أن طبيعة منطقة عفرين الجغرافية تُصعب من مهام القوات المشاركة في العملية، بعكس الطبيعة الجغرافية لمناطق شرق الفرات، إلا أن اختيار عفرين كمرحلة أولى في التدخل التركي يرتكز على اعتبارات سياسية وعسكرية في آن معًا، تتعلق بالوجود الأمريكي ومواقف القوى الفاعلة، وافتقار الوحدات الكردية للعمق الاستراتيجي الذي تملكه شرق النهر.

وقد درج المسؤولون الأتراك منذ بدء العملية على الإعلان: “أن تركيا تسعى لطرد مسلحي PYD /PKK، وإعادة السلطة لسكان عفرين الأصليين، وتأمين منطقة آمنة لعودة اللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا، وأن العملية ستمتد لاحقًا لتشمل منبج وكافة الحدود التركية مع سوريا”.

وبالطبع فإن الأهداف التركية من “غصن الزيتون” تتعدى مواجهة التهديد الكردي، حيث تنظر تركيا لمناطق الشمال السوري على أنها مناطق نفوذ استراتيجي بالنسبة لها، وبات لها دور أساسي في أي ترتيبات مستقبلية لسوريا نظرًا لما تملكه من هيمنة على قرار قوى كبيرة في المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وتسعى بالتالي من خلال العملية إلى توسيع مناطق سيطرة المعارضة السورية والتي تشكل امتدادًا لأمنها القومي وتديرها بشكل غير مباشر شمال سوريا والتي تمتد من مناطق “درع الفرات” نحو ريف إدلب، لتكون ضمن مجال المصالح التركية المباشرة، في وقت تشهد فيه سوريا تقسيمًا غير مباشر تحت نفوذ أكثر من دولة.

 كما تسعى أنقرة لتكملة ما بدأته في مناطق درع الفرات وإحداث منطقة آمنة لطالما طالبت بها، لتهيئة الظروف المناسبة لعودة قسم من اللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا وفي المخيمات الحدودية والتخفيف من العبء الذي يشكلونه.

قوات المعارضة السورية ودورها في العملية

تشارك فصائل الجيش السوري الحر وتحديدًا “فصائل درع الفرات” في عملية “غصن الزيتون” جنباُ إلى جنب مع القوات التركية، ومع أن قرار العملية هو قرار تركي يتعلق بشكل أساسي بالمصلحة القومية التركية، إلا أن مفعول العملية سيؤثر على قوى المعارضة والمشهد السوري بشكل عام.

حيث تسعى فصائل المعارضة المسلحة للاستفادة من العملية عبر توسيع مناطق سيطرتها لتمتد من ريف حلب الشمالي في مناطق “درع الفرات” ووصلها بريف حلب الغربي وإدلب، وبالتالي اكتساب مناطق جغرافية إضافية في ظل وضع ميداني صعب تتراجع فيه سيطرتها لحساب النظام السوري في إدلب وريفي حماه وحلب، بالإضافة للعمل على عودة النازحين في ريف حلب الشمالي إلى القرى التي سيطرت عليها “قسد” في مثلث “منغ تل رفعت الشيخ عيسى” في حال حققت العملية أهدافها.

ولا تملك قوات المعارضة مجالًا لصنع القرار في الأحداث الجارية، فقد باتت تتحرك ضمن إطار التفاهمات الدولية بين روسيا وتركيا، وخسرت المعارضة مناطق واسعة في إدلب تكاد تضاهي ما يمكن أن تكسبه من عملية عفرين في حال نجاحها، وبالتالي قد لا تشكل أي مناطق جديدة تسيطر عليها عاملًا مساعدًا في وجه قوات النظام وفي مفاوضات الحرب السورية، لأن أي تقدم سيرتبط بالدور التركي عسكريًا في الميدان وسياسيًا في ساحات التفاوض.

ردود الفعل والمواقف الدولية

موقف الولايات المتحدة

دفع الدعم الأمريكي المقدم للأكراد بالعلاقات الأمريكية التركية إلى التدهور خلال العامين الماضيين، حيث لم تجد أنقرة على ما يبدو مبررات مقنعة لدى الحكومة الأمريكية بشأن المخاوف الأمنية التركية من تمدد تلك الوحدات وزيادة تسلحها، وهي التي أمست تسيطر على ربع مساحة سوريا ومعظم خط الحدود الإدارية مع تركيا، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تؤكد فيه أن الدعم يهدف فقط لمحاربة “داعش” وأن معظم الأسلحة سيتم استعادتها عند انقضاء المهمة[3].

ولم تتحقق الوعود الأمريكية لتركيا بانسحاب قوات سورية الديمقراطية-قسد والتي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية المكون الرئيسي فيها من مناطق غرب الفرات، ومن القرى العربية التي سيطرت عليها في ريف حلب الشمالي، بعد أن توقفت عملية ” درع الفرات” العام الماضي عند أطراف منبج بفعل الرفض الأمريكي الروسي المشترك.

وقبل أيام من بدء عملية ” غصن الزيتون” وتحديداُ يوم 14 كانون الثاني/يناير، أعلن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، تشكيل وتدريب قوة حدودية مؤلفة من ثلاثين ألف عنصر بقيادة “قسد”، وسيكون نصف مقاتليها من الأكراد، وستنتشر عند حدود سوريا مع تركيا والعراق، وهو ما أكد المخاوف التركية من استمرار دور تلك الوحدات بعد الانتهاء من ” داعش”، وهو ما أثار حفيظة أنقرة.

ومع بدء العملية العسكرية التركية في عفرين، جاء الرد الأمريكي دبلوماسيًا ومخففًا إلى حد بعيد، ودعا إلى “ضبط النفس” على لسان وزير الخارجية “تيلرسون”، مع إبداء التفهم لمصالح تركيا الأمنية، حسب المتحدثة باسم البيت الأبيض.

ويندفع الموقف الأمريكي لاحتواء الاندفاع التركي بعدة اعتبارات:

  • لا تشكل عفرين منطلقًا لأي معارك في عمليات التحالف الدولي على ما تبقى من مناطق سيطرة “داعش”، وهذا ما أكده المتحدث باسم التحالف مع بدء العملية، وبالتالي فإن وجود مسلحي PYD في عفرين لم يعد مبررًا، وهو ما يشكل تهديد حقيقي للأمن التركي.
  • تقع عفرين ضمن مناطق النفوذ الروسي ولا يتواجد فيها قواعد عسكرية أمريكية كما الحال في باقي مناطق سيطرة الوحدات الكردية، وبالتالي لا تشكل أهمية استراتيجية للولايات المتحدة بالسيطرة على مناطق النفط والغاز، ولا تشكل العملية خطرًا مباشرًا على الجنود الأمريكيين المتواجدين في سوريا.
  • يدرك المسؤولون الأمريكيون أن تطور العلاقات الروسية التركية يشكل خطرًا على المصالح الأمريكية مستقبلًا، وبالتالي لا بد من خطوة في سبيل تحسين العلاقات المتوترة مع تركيا، وقد سارت ردود الفعل الكردية إلى تحميل روسيا المسؤولية الأكبر وليس الولايات المتحدة.

لكن من الصعوبة التيقّن من ثبات الموقف الأمريكي في حال استمرار العمليات العسكرية التركية لفترة طويلة، بالإضافة إلى النوايا التركية والتصريحات الرسمية الشبه يومية بأن العملية لن تقف عند عفرين بل ستتوسع إلى منبج، ما ينذر باحتمال وجود صدام مرتقب بين تركيا والولايات المتحدة في مناطق النفوذ الأمريكي المباشر في حال أصرت أنقرة على الاستمرار.

في قراءة الموقف الروسي، هل هناك صفقة بالفعل؟

يٌجمع المراقبون على أن عملية “غصن الزيتون” تشكل أعلى درجات التفاهم الروسي التركي في الملف السوري، فقد شهد العامان الماضيان تطورًا ملحوظًا في العلاقات الروسية التركية، في الجانبين العسكري والسياسي برزت ملامحه بداية في عملية ” درع الفرات” ومن ثم في رعاية الدولتين لمسار “أستانة” للمفاوضات السورية وما نتج عنها من اتفاقات “خفض التصعيد”، إضافة لتوقيع صفقة توريد منظومة الدفاع الجوي ( S400) لتركيا، وصولًا للتحضير لمؤتمر “سوتشي” وليس انتهاءً بعملية “غصن الزيتون”، حيث تشير التطورات لتوجه الدولتان لبناء علاقات استراتيجية في المنطقة.

فقبل يومين فقط من العملية قام كل من رئيس الأركان التركي “خلوصي أكار” ومدير المخابرات التركية “حاقان فيدان” بزيارة لروسيا التقيا خلالها وزير الدفاع الروسي “سيرغي شويغو”[4]، ووصفت الزيارة بأنها لوضع اللمسات الأخيرة قبل بدء العملية التركية.

وبعد ساعات من إعلان الأركان التركية عن بدء العملية، أصدرت وزارة الدفاع الروسية بيانًا أعلنت فيه سحب عناصر المجموعة العملياتية لمركز المصالحة وعناصر الشرطة العسكرية الروسية من محيط عفرين، كما حمّل البيان الولايات المتحدة المسؤولية عما آلت إليه الأمور، بسبب تسليح الأكراد ودفعهم نحو خطوات انفصالية[5].

ولقد أثار الموقف الروسي غضب القادة الأكراد، وهو ما دفعهم إلى اتهام روسيا “بالخيانة” مع بدء العملية التركية، وأكدوا أن العملية التركية ما كانت لتتم لولا “التواطؤ الروسي”[6].

وكانت الوحدات الكردية قد تلقت دعمًا روسيا مع بداية التدخل العسكري الروسي في أواخر العام 2015 وأثناء أزمة الطائرة مع تركيا، وافتتحت روسيا مكاتبَ لحزب الاتحاد الديمقراطي في موسكو ودعمت مسلحيه في عملياتهم ضد المعارضة السورية شمال حلب.

ولقد سعت موسكو في الأشهر الماضية وحتى بعد بدء العملية لإقناع قادة الوحدات الكردية بتسليم مناطق عفرين لقوات النظام السوري تجنبًا لعملية عسكرية تركية محتملة، وهو ما توقعه الكثير من المحللين، لكن الوحدات الكردية رفضت المقترح الروسي لما تشكله عفرين من أهمية في الضمير الكردي وكونها أهم أجزاء مشروع “روج آفا”[7].

ما علاقة عملية عفرين بما يجري في إدلب؟

تندرج مناطق إدلب ومحيطها ضمن المنطقة الرابعة التي أقرتها اتفاقيات “خفض التصعيد” الناتجة عن مسار “أستانة”، وهي المناطق التي تشهد منذ أكثر من شهرين معارك بين النظام وقوى المعارضة، استطاع النظام من خلالها الوصول إلى مطار أبو الظهور العسكري واقترب من مدينة “سراقب”، ورغم أن المناطق التي سيطر عليها النظام كانت في معظمها تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” (هتش)، إلا أن السقوط المتتالي للقرى والبلدات وبشكل سريع فتح المجال للتشكيك بما يجري، في ظل موقف تركي متراجع وخجول  أدى لفتح الباب أمام التحليلات التي تربط ما جرى في إدلب بالتحضيرات التي سبقت عملية عفرين، ما أظهر ملامح صفقة روسية تركية.

فقد كانت تركيا وتطبيقًا لاتفاق خفض التصعيد الخاص بالمنطقة الرابعة الموقع في أيلول/سبتمبر2017 ملزمة بنشر 12 نقطة مراقبة في إدلب ومحيطها، لكن القوات التركية نشرت 3 نقاط مراقبة فقط في إدلب وجميعها تقع في محيط عفرين من الجهة الجنوبية، ونشرت النقطة الرابعة في وقت لاحق بعد بدء عملية عفرين في منطقة تل العيس جنوب حلب، بالإضافة للأنباء الواردة عن نيتها نشر نقطة جديدة في مطار “تفتناز” العسكري كقاعدة للقوات التركية.

ورغم الحديث في الشهور الماضية بين المتابعين من أن “هتش” هي من منعت القوات التركية من نشر نقاط المراقبة في المنطقة الرابعة، إلا أن البعض رأى أن تركيا استطاعت التنسيق مع “هتش” في نشر نقاط في محيط عفرين، وكانت قادرة على نشر باقي النقاط لتمنع قوات النظام وحلفائه من التقدم في عمق إدلب، إلا أن الترتيبات التركية الروسية رتبت لأن تكون مناطق شرق السكة تحت النفوذ الروسي، وبالتالي فإن سلوك “هتش” العسكري يندرج ضمن تلك التفاهمات.

وسواء كان التقدم الذي حققته قوات النظام في إدلب تم نتيجة تفاهمات تركيا مع روسيا أم لا، فإن الحقيقة الظاهرة هي أن الموقف التركي تجاه تحركات النظام وروسيا في إدلب قد اتسم بالتردد والإدانة الدبلوماسية فقط دون تحركات فعلية لوقف الاختراقات لاتفاق “خفض التصعيد”، حيث لم تكن تركيا في وارد التفريط بتفاهماتها مع شريكيها روسيا وإيران.

الموقف الإيراني:

اتسمت الردود الإيرانية على العملية بالطابع التقليدي والذي يحذر من “المساس بالسيادة السورية”، حيث أكدت الخارجية الإيرانية على لسان المتحدث باسمها “بهرام قاسمي” على “ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية واحترام السيادة الوطنية لهذا البلد والامتناع عن تصعيد الأزمة الانسانية والحفاظ على أرواح السوريين الأبرياء”[8]. كما دعت الخارجية الإيرانية تركيا يوم 5 شباط/ فبراير الحالي إلى وقف عمليتها العسكرية في عفرين محذرة من عودة “عدم الاستقرار”[9].

وتشترك إيران وتركيا باعتبار التحركات القومية للقوى الكردية في المنطقة مهددًا لكليهما، وتجسدّ ذلك بالتعاون أثناء أزمة استفتاء إقليم كردستان العام الماضي. كما أن الدولتين شريكتان في رعاية مسار “أستانة” للمفاوضات السورية، ولم يكن التنسيق التركي عالي المستوى مع روسيا ليمنع تركيا من أن تتحرك بعيدًا عن التنسيق مع إيران، حيث أجرى رئيس الأركان التركي اتصالًا هاتفيًا بنظيره الإيراني في اليوم الثاني من بدء العملية[10].

إلا أن الوجود التركي شمال سوريا يشكل تهديدًا للاستراتيجية التي تسعى إيران لتحقيقها في المنطقة، خصوصاُ أن تحجيم النفوذ الإيراني يُشكل هدفًا مشتركًا لروسيا وتركيا.  لكن إيران التي حظيت بموقف تركي داعم أثناء الاحتجاجات التي اندلعت في إيران نهاية العام الماضي، تبدو على الأقل في الفترة القريبة القادمة، غير قادرة على الوقوف في وجه الخطط التركية في وقت بات فيه القرار الروسي في سوريا هو الأساس، وبالتالي فإن استعداد إيران للقيام بخطوات مواجهة للنفوذ التركي ترتبط بمحورية الدور الروسي في وقت تسعى فيه روسيا لرسم تسوية سياسية لا يمكن أن تتم دون وجود تركيا.

وفي نفس الإطار يندرج الموقف الرسمي للنظام السوري، الذي تمرغت سيادته أكثر من السابق بعد أن أطلق تهديدات باستهداف القوات التركية دون أي فعل، ولم يبدِ أي تحرك بعد أن أصدرت الوحدات الكردية بيانًا طالبته فيه بالتدخل لصد الهجوم الكردي.

مواقف دولية أخرى

اتسمت ردود الفعل الدولية بشكل عام بالدعوة لضبط النفس والحفاظ على أرواح المدنيين مع ادانات محدودة، كما أن الدبلوماسية التركية كانت حاضرة منذ بدء العملية ساعة بساعة لمواكبة ردود الفعل الدولية واستيعابها والرد عليها.

ومع بدء العملية العسكرية سارعت الخارجية التركية لاستدعاء سفراء وممثلي الدول الكبرى ودول الجوار لتوضيح ظروف العملية التي بدأتها، وقامت بحركة دبلوماسية نشطة في هذا المجال، بما في ذلك إخطار حكومة النظام السوري بالعملية.

 وفي حين نددت مصر والإمارات بالعملية واعتبرتها “انتهاكًا للسيادة السورية”، دعت فرنسا لاجتماع لمجلس الأمن لبحث العملية  لكن فشل المجلس في مناقشة العملية، كما نشرت الخارجية الفرنسية بيانًا أكدت فيه “ضرورة أن تتحلى تركيا بضبط النفس في وقت تتدهور فيه الأوضاع الإنسانية في عدة مناطق بسوريا“.

وفيما بدا تفهما من قبل لندن لعملية “غصن الزيتون” التركية في عفرين، قال متحدث باسم الخارجية البريطانية: “إنَّ لدى تركيا العضو في الناتو مصلحة مشروعة في ضمان أمن حدودها، وأضاف أن بريطانيا ملتزمة بالعمل بشكل وثيق مع تركيا وحلفاء آخرين لإيجاد حلول في سوريا”[11].

مستقبل العملية والسيناريوهات المحتملة

يُقر الخبراء بصعوبة العملية العسكرية التركية في عفرين، سواء من الناحية العسكرية حيث تتشكل المنطقة من موانع جغرافية طبيعية، بالإضافة للقدرات التسليحية والقتالية التي تتمتع بها الميليشيات الكردية، أو سياسيًا لجهة تقاطع المصالح الاستراتيجية لعدة قوى فاعلة في المنطقة، رغم أن توازن القوى الميدانية في ساحة العملية يميل لصالح القوات التركية وحلفائها من المعارضة السورية.

وتبدو تركيا والتي تعتمد في العملية على أكثر من 20 ألف عنصر من قوات المعارضة السورية في وضع يُصعب عليها زج أعداد كبيرة من القوات البرية في العملية، لتفادي الخسائر البشرية التي ستؤدي لانتقادات حادة من المعارضة والرأي العام التركي.

ويبدو أن تركيا تسعى لقطف ثمار تدخلها دون إطالة أمد العملية عبر الضغط الدبلوماسي والتهديدات المتكررة بتوسيع نطاق العمليات العسكرية إلى منبج، في انتظار تدخل دولي وسيط ينهي وجود الميليشيات المسلحة الكردية المعادية لتركيا في عفرين ومنبج على الأقل دون الحاجة لاستمرار العملية.

ومن هنا يمكن طرح ثلاث سيناريوهات محتملة:

الأول: أن تقف حدود العملية عند منطقة عفرين، تمهيدًا لحصارها وإخراج المسلحين الأكراد منها بالقوة أو بتسوية عبر وساطة ما، وإتمام إنشاء المنطقة الآمنة في عمق يصل حتى 30 كيلو متر من الحدود التركية، حيث تعتمد القوات التركية على تكتيكات عسكرية حذرة تحتاج لفترة زمنية ليست بالقصيرة، لتجنب سقوط خسائر بشرية في صفوف القوات التركية وفصائل المعارضة السورية، ومحاولة تجنب سقوط ضحايا مدنيين ممكن أن يؤدي لتأليب الرأي العام العالمي ضدها، ونجاح تركيا في تحقيق الأهداف الرئيسية من العملية سيقوي بلا شك  الموقف التركي ويزيد من نفوذه في ترتيبات الحل السياسي  في سوريا.

أما السيناريو الثاني: فهو أن تزج تركيا بالمزيد من القوات لإنهاء عملياتها في عفرين والتوجه بعد ذلك نحو منبج ومناطق شرق الفرات، وهذا سيؤدي لاستنزاف القوات التركية، فضلًا عن تضارب المصالح مع الفاعلين الآخرين في تلك المناطق خصوصًا الولايات المتحدة.

أم السيناريو الثالث: والذي تزداد فرص تحققه، فهو أن تشكل العملية مدخلًا لإعادة بناء التفاهمات بين القوى المتصارعة على النفوذ في سوريا، بحيث تحصل تركيا على الحد الأدنى من الضمانات المتعلقة بأمنها القومي في الشمال السوري، وهو ما سيفضي لسيطرة قوات النظام السوري على عفرين ومحيطها، مع دخول قوى المعارضة السورية لقرى ريف حلب في مثلث منغ تل رفعت الشيخ عيسى وإبقاء تركيا لسيطرتها على بعض القمم الجبلية والمواقع التي وصلت إليها في أطراف عفرين.

خاتمة

لا شك أن عملية ” غصن الزيتون” وبصرف النظر عن المراحل التي ستصل إليها، ستؤدي لإحداث أثر مهم في الحرب السورية القائمة، بالإضافة لتداعيات اجتماعية لا يمكن التغاضي عنها، وهو ما أثار ردود فعل متباينة بين مختلف فعاليات المجتمع السوري والقوى الأهلية بين مؤيد ومعارض ومتخوّف، في ظل حالة استقطاب اثني تشهدها مناطق شمال سوريا بين المكونين العربي والكردي، وتسرب أنباء عن انتهاكات لبعض العناصر من قوات المعارضة المشاركة في العملية، والتي يراد لها أن تزيد من التوتر العرقي في الشمال السوري.

ومن المهم ذكره أن الممارسات الإقصائية والقمعية وجرائم التهجير القسري بحق السكان العرب من قبل الميليشيات الكردية وقوات “قسد”، والتي مورست بشكل ممنهج في الفترة الماضية في مناطق شمال وشرق سوريا بحجة مكافحة “داعش” للوصول إلى إقامة الفدرالية المزعومة في مناطق شمال، والعبث المخطط له لإحداث تغيير بنيوي في الكيان السوري، قد تركت آثارًا عميقة في الساحة السورية وفي البيئة المجتمعية، جعلت من القضاء على الميليشيات الكردية وتقويض وجودها هدفًا مشتركًا لقوى النظام والمعارضة على حد سواء.

لكن رغم ذلك تزداد المخاوف لدى السوريين من أن يتم زجهم في ساحة الصراعات القومية في المنطقة، وأن يكونوا رأس حربة في مشاريع نفوذ لا تحقق ما يطمح إليه الشعب السوري من قيم العدالة والحرية والاستقلال، وهو ما سيُضر بالعلاقات المجتمعية في سوريا لأجيال قادمة، في وقت يسعى فيه السوريون لتخفيف آثار المحرقة التي يتعرضون لها، والخشية من تحويل الأنظار عن المجازر اليومية التي يقوم بها النظام وروسيا في الغوطة وإدلب والتي راح ضحيتها المئات من السوريين في الأيام القليلة الماضية.

لتحميل التقرير من هنا

الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للاستشارات والدراسات المستقبلية © 2018

[1] الأناضول، 20.1.2017، https://goo.gl/eSMCGB .

[2] للمزيد عن مشروع “روج آفا” أو غرب كردستان انظر: “قطعة من سورية: ماذا تعرف عن روج افا، أورينت نيوز، 31.07.2015، https://goo.gl/hhHVgx .

[3] استبق القمة بين الرئيسين التركي والأمريكي في واشنطن في منتصف أيار /مايو العام الماضي بأيام، إعلان البنتاغون عن موافقة الرئيس الأمريكي ترمب على خطة لتسليح المقاتلين الأكراد لدعم مواجهة تنظيم “داعش” في الرقة، وهو ما أثار حفيظة تركيا، للمزيد انظر: http://www.bbc.com/arabic/middleeast-39859102

[4] “شويغو يلتقي رئيسي الأركان والاستخبارات التركيين”، روسيا اليوم، 18.1.2018، https://goo.gl/vZGPZY .

[5]  انظر: “الدفاع الروسية تعلن سحب عسكريين من محيط عفرين”، سبوتنيك عربي، 20.1.2018، https://goo.gl/mH7zto .

[6] انظر: “أكراد سوريا يتهمون موسكو بالخيانة”، سكاي نيوز عربية، 23.1.2018، https://goo.gl/S8ZUUW .

[7] انظر: “الأكراد السوريين يرفضون تسليم مناطقهم للنظام”، الخليج الجديد، 21.1.2018، https://goo.gl/PjZiDp .

[8] “موقف إيران من العملية العسكرية التركية في عفرين”، سي إن إن عربية، 21.1.2018، https://goo.gl/NgZeAy .

[9] “إيران تدعو تركيا لوقف العملية العسكرية في عفرين”، روسيا اليوم، 5.2.2018، https://goo.gl/crN1RM .

[10] “رئيس الأركان التركي يهاتف نظيره الإيراني”، روسيا اليوم، 21.1.2018، https://goo.gl/nxWwSG .

[11] “مواقف دولية متباينة من العملية التركية”، الجزيرة نت، 21.1.2018، https://goo.gl/Cwz6eX .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى