الاصداراتدراسات

الحرب على الإرهاب

5558

تَشكَّل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تحالف دولي كبير تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية من أجل مواجهة خطر “الإرهاب”، الذي تُشكله الجماعات المسلحة، والمنظمات الخارجة عن القانون وعلى رأسها تنظيم “القاعدة” بزعامة “أسامة بن لادن”.

حيث عزم المسؤولون الأمريكيون على خوض حرب كبيرة غير محددة بزمان أو مكان، حتى يتم القضاء على “الإرهاب” واجتثاث جذوره. وقد تحمست لهذه الحرب دول عديدة تعاطفًا مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها من أراد كسب ودها حتى تغض الطرف عن سياسته الداخلية.

لكن الإشكال المطروح يكمن في مدى نجاعة هذه الحرب التي خلفت الكثير من الضحايا، وخربت الكثير من الدول دون الإقرار بفشلها، وعدم تمكنها من تحقيق أهدافها المعلنة وهي القضاء على الجماعات المتطرفة المسماة “إرهابية”، بل أصبحنا نقف أمام ظاهرة ظهور وبروز جماعات جديدة وفي دول مختلفة من العالم، في نيجيريا ومالي وليبيا واليمن وسوريا والعراق … حيث تعددت الجماعات الجهادية، واختلفت ولاءاتها من تنظيم “القاعدة” إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”[1].

نحاول في هذه الدراسة البحث في ماهية “الإرهاب”، وكذلك الخلفيات وراء “الحرب على الإرهاب”، وانعكاس ذلك على السلم والأمن في منطقة الشرق الأوسط، بظهور تنظيمات متطرفة تتنافس في التقتيل والترويع، وذلك من خلال محورين اثنين:

أولا: التحالف الدولي ضد “الإرهاب” والطريق المجهول.

ثانيا: مدى نجاح “الحرب على الإرهاب” في ظل تنامي قوة الجماعات المتطرفة.

  1. التحالف الدولي ضد “الإرهاب” والطريق المجهول:

وضعت الولايات المتحدة الأمريكية بعد الأحداث المذكورة هدفَ مكافحة “الإرهاب” ومعاقبة الدول التي ترعاه، وهي المرة الأولى -منذ نهاية الحرب الباردة- التي تضع فيها الولايات المتحدة لنفسها هدفًا محددًا، حيث كانت في زمن الحرب الباردة منصبة على محاربة الاتحاد السوفيتي، حيث وضعت هدف الحرب على “الإرهاب” في نفس المكانة التي كان يحتلها هدف محاربة الشيوعية، فأوجدت أمريكا الرسمية حملة جديدة وإيديولوجية جديدة “الحرب على الإرهاب”، وهو مركب إيديولوجي استطاع أن يخضع شعبًا أصابته 11 سبتمبر بالصدمة، حيث وجدت تبريرًا لسياستها الداخلية والدولية، وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال ذلك أن تكون مكافحة “الإرهاب” مهمةً وهدفًا للمجتمع الدولي وليس لأمريكا فقط، والتأثير على الأمم المتحدة والأوروبيين لمشاركتهم في الحرب على “الإرهاب”.[2]

رغم أن العالم انخرط في الحرب على “الإرهاب”، إلا أن انخراطه كان عشوائيًا؛ وذلك لعدم وضع أسس لهذه الحرب، والتي هي ضد مفهوم لم يحدد له تعريف موحد، “فالإرهاب” الذي وُجد له أعداء مُوحَّدِين لم يُوجَد له تعريف موحد؛ بسبب التجاذبات السياسية والمصلحية للدول، حيث تحاول كل دولة تكييف تعريفها له حسب ما يخدم مصلحتها وأهدافها.

  • “الإرهاب” ومحاولة التعريف:

يعتبر تعريف وتحديد مفهوم “الإرهاب” من الأمور الصعبة، لأن مصطلح “الإرهاب” ليس له محتوى قانوني محدد ومتفق عليه، بسبب الطابع الديناميكي والمتغير الذي يتميز به، وقد صادفت محاولات إيجاد تعريف “للإرهاب” قبل وبعد الحادي عشر من سبتمبر عدة مشاكلَ من الناحية المنهجية والعملية، بحيث يمكن القول بأنه لا توجد نظرية عامة “للإرهاب الدولي”، إضافة إلى الاختلاف في المصالح الدولية ووجهات النظر والتصور، والتي تحول دون إيجاد تعريف موحد للمفهوم.[3]

ومع أن مصطلح “الإرهاب” أصبح أكثر شهرةً وشيوعًا على المستوى الدولي، من حيث الاستعمال للتعبير عن مجموعة من الدلالات المختلفة؛ فإن وضع تعريف موحد له يبقى من الإشكالات المستعصية الحل؛ لاختلاف الخلفيات الإيديولوجية، والمرجعيات للفقهاء المهتمين بتحليل وتعريف ظاهرة “الإرهاب”، حيث يجب وضع معيار محدد وواضح لتحديد الأعمال التي تدخل في إطار الشرعية الدولية، والأعمال التي تعد خارجة عن ذلك، بما فيها الأعمال التي تعد “إرهابًا”.

قد يشترك “الإرهاب” مع بعض الأفعال غير المشروعة في وجود عوامل ومسببات خارجية تجعل مسألة التحديد والتعريف صعبة، غير أنه يختلف عن تلك الأعمال غير المشروعة، في وجود مشكلة ذاتية مرتبطة بالمصطلح ذاته تجعل مسألة التعريف صعبة المنال.

“فالإرهاب” كمصطلح وكجريمة يفتقر لمحددات واضحة ومفهوم وعناصر وأركان كباقي الجرائم غير المشروعة، الشيء الذي

ينعكس على التعريف، حيث يشتكي الكثير من الباحثين في مجال “الإرهاب”، من كون مصطلحات مثل “الإرهاب” و”الإرهابي” تعاني من الغموض وتفتقر إلى درجة اليقين.[4]

لقد حاولت بعض المنظمات وبعض فقهاء القانون وضعَ تعريفات “للإرهاب” فجاءت متقاربة أحيانًا ومتباينة أحيانًا أخرى، كما أن هناك من يعارض وضع تعريف معين بحجة أن الوصف أسهل من التعريف، وأنه من الصعوبة وضع تعريف جامع وموحد له، حيث عارضت دول عديدة وضع تعريف واحد “للإرهاب”؛ بحكم أنه ظاهرة متغيرة ومتنوعة، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي وجدت في ذلك حجةً لفرض قراراتها وخططها بما يخدم مصالحها القومية.

“الإرهاب” في معجم المصطلحات السياسية والدولية، هو بث الرعب والذعر في نفوس الأفراد والجماعات عن طريق استخدام العنف غير المشروع، أو التهديد باستخدامه، من قِبل دول أو أفراد أو منظمات، بُغية تحقيق هدف ما يكون غيرَ مشروع، “فالإرهاب” هو اعتداء على حق، بخلاف المقاومة التي هي دفاع عن حق، ومما يعتبر “إرهابًا” -حسب المعجم نفسه- كل عمليات الاغتيال والقتل، والتشويه، والتعذيب والتخريب، بهدف كسر روح المقاومة عند الأفراد، أو هدم المعنويات عند الهيئات والمؤسسات، أو بهدف الحصول على معلومات أو مال، أو بشكل عام استخدام الإكراه لإخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة “الإرهابية”، كما يعتبر هدم العقارات وإتلاف المحاصيل في بعض الأحوال شكل من أشكال النشاط “الإرهابي”[5].

أما الفقيه “سوتيل” فيعرف “الإرهاب” بأنه: ” العمل الإجرامي المُقتَرَف عن طريق الرعب أو العنف أو الفزع الشديد من أجل تحقيق هدف محدد”، بينما يرى الفقيه الفرنسي “جورج لافاسير” أن “الإرهاب” هو: “الاستخدام العمدي والمنظم لوسائل من شأنها إثارة الرعب بقصد تحقيق بعض الأهداف.”[6]

وقد عَرَّفته الاتفاقية العربية لمكافحة “الإرهاب” في الفقرة الثانية من المادة الأولى على أنه: “كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به أيّا كانت بواعثه أو أغراضه، يقع تنفيذًا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم للخطر، أو إلحاق الضرر بالبيئة أو أحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة، أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر”.[7]

ويقسّم الدكتور “أسامة الغزالي حرب”، “الإرهاب” في تعريفه استنادًا لأربعة معايير:[8]

  • أولا: أنه شكل من أشكال العنف، وتتجلى صوره في: الاغتيال والتعذيب، واختطاف الرهائن، واحتجازهم، وبث القنابل، والعبوات المتفجرة، واختطاف واحتجاز وسائل النقل.
  • ثانيا: “الإرهاب” هو أداة أو وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، ليس فقط في سياق المواجهة الداخلية بين السلطة السياسية وبين الجماعات المعارضة لها، بل كأداة للتعامل بين الدول مع بعضها البعض، أو إنه بهذه الصفة ليس أداة لتحقيق أهداف عسكرية.
  • ثالثا: يتضمن “الإرهاب” انتهاكا عمديًا، ليس فقط للقواعد القانونية والشرعية العامة، وإنما للقواعد الدينية والعرفية السائدة كذلك، وهذا أمر ملائم لطبيعة الفعل “الإرهابي”، الذي يفترض إشاعة الإحساس بعدم الاطمئنان واستحالة التنبؤ به.
  • رابعا: أنه ذو طابع رمزي، فهو لا يُقصد لذاته بقدر ما ينطوي عليه من رسالة موجهة إلى كافة الضحايا المحتملين، بحيث يُوقع الرعب في القلوب، ويثير التساؤل عن ماهية الضحية التالية.

لم يقف العالم وخاصة الدول المسيطرة على القرار الدولي، في انتظار الوصول إلى تحديد مفهوم واضح ومحدد “للإرهاب” من أجل القضاء عليه، وربما كان من المتعمد ترك المفهوم مبهمًا؛ حتى يتسنى لتلك الدول اللعب على الساحة الدولية كما يحلو لها، “فالحرب على الإرهاب” كانت أولوية الأولويات خاصة بعد عمليات الحادي عشر من سبتمبر وكأن الولايات المتحدة كانت تنتظر حدوث ذلك، حتى يمكنها الحلول محل الأمم المتحدة، وتطبيق مخططاتها في السياسة الخارجية.

  • مدى مشروعية “الحرب على الإرهاب”:

خَلقت “الحرب على الإرهاب” جدلًا قانونيًا وفقهيًا كبيرين من حيث الأسس القانونية التي ترتكز عليها، وذلك بالنظر إلى حجم الحملة ورد الفعل الذي قامت به الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ففي السابق كانت الولايات المتحدة ترد على الهجمات المتفرقة التي كانت تقوم بها الجماعات المسلحة وخصوصًا تنظيم القاعدة ضد مصالحها الخارجية، كالهجوم على السفارات والأهداف العسكرية، ومن أمثلتها الهجوم على سفارة الولايات المتحدة بكينيا وتنزانيا، وتفجير المدمرة “كوول” بسواحل اليمن، كانت ترد على تلك الهجمات بهجمات جوية خاطفة، وبعض الإجراءات كتجميد الأرصدة للأشخاص المشتبه بهم. غير أنه بعد 2001 قامت باحتلال أفغانستان، والعدوان على العراق بتحالف مع بريطانيا ودول أخرى دون الرجوع إلى الأمم المتحدة في خرق صارخ للقانون الدولي.

لقد استغلت الولايات المتحدة قرار مجلس الأمن رقم 1368 الصادر في اليوم التالي لهجمات 11 سبتمبر 2001، والذي أشار إلى حق الدفاع الفردي أو الجماعي عن النفس ضد التهديدات “الإرهابية”، فقامت بحشد تحالف دولي من أجل الدفاع عن نفسها باعتبار أن الهجمات التي تعرضت لها تعتبر أعمالًا عدوانية، إلا أن العدوان في تعريف الجمعية العامة من خلال توصية 3314 لعام 1974 يتحدث عن أن الهجوم بواسطة القوات المسلحة لإحدى الدول، أو الغزو ضد إقليم دولة أخرى يعتبر من أعمال العدوان، وبالتالي فاحتلال الولايات المتحدة الأمريكية لأفغانستان رغم أنها ليست المسؤولة عن تلك العمليات، يعتبر عدوانًا في حق دولة عضو في الأمم المتحدة.

لقد قوبلت غالبية القرارات التي أصدرها مجلس الأمن حول موضوع “الإرهاب” بعد 11 سبتمبر 2001 بالكثير من الانتقادات، وذلك بتجاوز مجلس الأمن في تلك القرارات للصلاحيات الممنوحة له بموجب ميثاق الأمم المتحدة حسب العديد من رجال الفقه، ويَعتبر الأستاذ عصام سليمان في تعليقه على القرار 1373 أن الإجراءات المطلوب من الدول تنفيذها بموجب القرار 1373، في إطار مكافحة الإرهاب تدخل في أمور تفصيلية لا شأن للقانون الدولي بها؛ لأنها تدخل في صلب قوانين الدول، فلا يمكن للقانون الدولي أن يتدخل في أمور سيادية للدول إلا بموافقة الدول نفسها، حيث تخطى القرار 1373 الحد الفاصل بين ما هو شأن دولي وما هو شأن داخلي.[9]

بعد أن كانت الولايات المتحدة تضع على رأس أولويتها في الدفاع عن أمنها القومي القضاءَ على تنظيم القاعدة بحكم أنه مركز “الإرهاب” العالمي، غير أن هذه النظرة بدأت في التحول مع ظهور جماعات أكثر تطرفًا وعنفًا، مما يثير شكوكًا حول نجاعة السياسة التي ينتهجها المجتمع الدولي في “الحرب على الإرهاب” ومصداقيتها.

فـ “الحرب على الإرهاب” منذ بدايتها بشكل صريح بعد الحادي عشر من سبتمبر لم تحد من انتشار الفكر المتطرف، ولا من تزايد عدد الجماعات المسلحة المتطرفة، خصوصًا في المناطق التي ادعت فيها الولايات المتحدة أنها تحارب “الإرهاب” كالعراق وأفغانستان والصومال.

  1. مدى نجاح “الحرب على الإرهاب” في ظل تنامي قوة الجماعات المتطرفة:

لقد كان جميع المتتبعين والمختصين في الحقل السياسي الدولي يتوقعون تراجعَ حدة العنف في العالم، وتناقص تهديد الجماعات المسلحة المتطرفة أو المسماة “إرهابية” بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، ودحر قوة القاعدة وحركة طالبان، وتنصيب حكومة جديدة موالية، كما أن مقتل زعيم القاعدة “أسامة بن لادن”[10] كان يُتوخى منه الحد من خطورة تنظيمه أو القضاء عليه إلى الأبد، لكن النتائج جاءت معاكسة، مع تكاثر أعمال العنف والتفجيرات وزيادة الجماعات المصنفة “إرهابية” في العديد من بؤر التوتر، مما يؤكد على أن السياسة الدولية لمحاربة “الإرهاب” غير ناجعة، أو أن “الحرب على الإرهاب” هي مؤججة له أساسًا؛ لغياب الضوابط القانونية المؤطرة لها.

  • الحرب على “القاعدة” بين النجاح والفشل:

لقد كان السبب المباشر الذي استندت إليه الولايات المتحدة الأمريكية في عدوانها على أفغانستان هو محاكمة أسامة بن لادن أمام القضاء الأمريكي؛ لتورطه في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث استندت في ذلك على شريط فيديو مسجل يردد فيه :” والله لن تنعم أمريكا بالأمن بعد اليوم” مما اعتبرته بمثابة تنفيذ لتهديداته، حيث سبق وأن اتهمت الولايات المتحدة زعيم “تنظيم القاعدة” وشركائه بالوقوف وراء تفجيرات 7 أغسطس/ غشت 1998 على السفارة الأمريكية بنيروبي بكينيا، وكذلك السفارة الأمريكية بتنزانيا، بالإضافة إلى اتهامه -تنظيم القاعدة-  بتصدير “الإرهاب”، والاستعانة بالمرتزقة الأجانب للقيام بأعمال عدائية انطلاقًا من الأراضي الأفغانية.[11]

بعد أحداث إسقاط برجي التجارة العالمية أصبح “تنظيم القاعدة” العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية، حيث اختصرت “الإرهاب” والحرب عليه في القضاء على التنظيم وزعمائه دون البحث في مسببات ذلك. حيث كان البحث عن عدو لامتصاص الغضب الشعبي الأمريكي هو أولوية الإدارة الأمريكية بقيادة “بوش الابن”، فوجدت في محاربة “القاعدة” المخرج من أجل تصريف أزمتها السياسية وفشلها في تأمين الداخل الأمريكي، حيث كان من المستحيل توقع أن الولايات المتحدة ستهاجم في عقر دارها.

في 20 سبتمبر 2001، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان رئيسها “جورج بوش الابن”، بداية “حرب شاملة للخير ضد الشر”، حرب لا بداية ولا نهاية ولا حدود ولا وجه لها: “حربنا ضد الإرهاب تبدأ بالقاعدة، ولا تنتهي عندها، ستنتهي الحرب عندما تحدد وتوقف وتهزم كل جماعة إرهابية قادرة على الهجوم على الصعيد العالمي… فردنا لن يتوقف عند ضربات انتقامية معزولة… على كل دولة أن تتخذ قرارًا، إما أنكم معنا أو مع الإرهاب. هذه الحرب هي ليست أمريكية فقط، بل هي حرب حضارية”. قبل 13 سبتمبر 2001 طلبت الولايات المتحدة الأمريكية من نظام طالبان تسليم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن معتبرة إياه المسؤول عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر.[12]

لقد أشار أحد المسؤولين الأمريكيين ورئيس مكتب مكافحة “الإرهاب” بوزارة الخارجية الأمريكية “دانيل بنجامين”، أنه تم إزالة أكثر من 20 قياديًا كبيرًا في “تنظيم القاعدة” المتمركزين في أفغانستان وباكستان منذ مجيء الرئيس “باراك أوباما”، بعد أن كان تنظيم القاعدة أكثر قوة في سنة 2009 أصبح اليوم شبه ضعيف حسب قول المسؤول الأمريكي، خصوصًا بعد مقتل زعيم التنظيم سنة 2011، حيث أصبح الهيكل الأساسي للتنظيم في الطريق نحو الهزيمة.[13]

فالولايات المتحدة بحربها على “الإرهاب” لم تكن تدري أنها توفر الأرضية الخصبة لانتعاشه، أو ربما كان ذلك هو قصدها حتى يتم إلصاق “الإرهاب” بالإسلام والمسلمين، في المقابل هي توفر البنية التحتية لتكاثر الجماعات المسلحة بتخريب الدول وبنياتها الأساسية وإضعاف مؤسساتها، ومع غياب سلطة قادرة على فرض القانون وجيش يستطيع حماية الدولة وحدودها، فنكون أمام مجال خصب لانتشار جماعات متطرفة فالطبيعة تكره الفراغ، رغم أن هناك تساؤلات كبيرة حول كيفية حصول تلك الجماعات على الأسلحة وطريقة وصول المقاتلين وانضمامهم لصفوفها.

ففكر التنظيمات الجهادية المسلحة يرتكز على فشل الدولة، وهشاشة المجتمعات، وهي لا تعيش ولا تترعرع في ظل أنظمة معتدلة سياسيًا، وغير قمعية، أو دموية، حيث أن “القاعدة” وأخواتها لا تتبلور رسالتها من خلال خصومة سياسية، وهي لا تريد أن تكون معارضة بالمفهوم التقليدي للكلمة، بل هي تريد أعداء وكفارًا، وأشرارًا “تشيطنهم” لتقول أنه لا خلاص منهم إلا بقتلهم، والعمل العسكري الذي ينال من قوتهم، وهي تنجح في منحاها العنفي المسلح حين تتمكن من توظيف الظروف المعيشية الصعبة في أي بلد لإقناع مجنديها بأن الحل لهذه الظروف هو القضاء على تلك الحكومات التي تتحمل المسئولية عن هذه الظروف بتقنينها الفساد المالي، والابتعاد عن تحكيم الشريعة.[14]

إن “تنظيم القاعدة” ولو أن العديد من المحللين يؤكدون على هزيمته وبداية أفول نجمه، إلا أن الدور الذي قام به في التأسيس لمرحلة جديدة من تاريخ السلفية الجهادية يبقى كبيرًا، حيث أن الإيديولوجية الجهادية التي نشرها وسط المجموعات المسلحة أصبحت ظاهرة على الصعيد الدولي، فالتنظيمات المسلحة أصبحت تعلن ولاءها للقاعدة، و تتبنى منهجها دون أن يربطها بها رابط الجغرافيا أو ساحة الصراع، وبالتالي فنحن أمام “عولمة الفكر الجهادي”، حيث ساعد على ذلك كثرة الصراعات والحروب في الدول الإسلامية، مما يسهل معه جذب عدد كبير من المتطوعين للانضمام لتلك الجماعات، فإن تم القضاء عليها عسكريًا في جبهة ما، تظهر مجموعة أخرى في جهة غيرها، حيث أصبحنا نجد تنظيم القاعدة في العراق واليمن وسوريا والصومال والصحراء الكبرى…

  • “داعش” ولادة تنظيم جديد من رحم “القاعدة”:

لم تكد تضع “الحرب على الإرهاب” أوزارها، حتى ظهر تنظيم يطلق على نفسه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، يصنفه المتتبعون على أنه أكثر خطورة وعنفًا من تنظيم “القاعدة”، الذي استنكر في كثير من الأحيان منهج وخط “داعش” الجهادي، حيث التعامل بوحشية وعنف مع الرهائن ومعارضيه، وكل من يخالف قوانينه في مناطق نفوذه، فأصبح التنظيم أكثر قوة وتنظيمًا، مستغلًا غياب الدولة في كلٍ من العراق وسورية، وكذلك انتشار الأسلحة وأشياء أخرى سنأتي على ذكرها.

تتمتع “داعش” بالقدرة على القيام بعمليات على جانبي الحدود السورية العراقية، رغم انهماكها في حرب داخلية “جهادية” مع تنظيمات أخرى “كجبهة النصرة” و”أحرار الشام” وجماعات أخرى، إلا أنها ما زالت تسيطر على الرقة وعلى جزء كبير من شرق سورية، خارج المناطق التي يسيطر عليها الأكراد على الحدود مع تركيا، ووصفت “جيسيكا د. لويس” من معهد دراسة الحرب (Institute for the study of war)، في دراسة عن الحركة الجهادية في نهاية سنة 2014، وصفت “داعش” بأنها “منظمة قوية ومرنة للغاية وقادرة على العمل من البصرة وصولا إلى الساحل السوري”.[15]

أكبر دليل على فشل “الحرب على الإرهاب”، هو تعاظم قوة الجماعات المسلحة المنبثقة عن “تنظيم القاعدة”، وذلك من خلال عودة القادة الميدانيين من أفغانستان وباكستان، وكذلك ما نسجه المقاتلين أثناء فترة سجنهم في السجون العراقية. إلا ّأن أكبر عامل ساعد تنظيم “داعش” على إحكام قبضته على مناطق شاسعة وخاصة في العراق، هو الظلم والحيف الذين عاناه السنة في العراق إبان فترة حكم رئيس الوزراء السابق “نوري المالكي”، فالحكم القائم على منطق الطائفية يكرس الفُرقة ويهيئ الظروف للصراعات الداخلية، التي تجعل كل طائفة تلتف حول قوة تدافع عنها وتوفر لها الحماية مضطرة لا راغبة.

لقد استطاعت “داعش” توسيع نفوذها وسيطرتها مستفيدة من عاملين هما: التمرد السني في سورية، والتغييب السُّني في العراق تحت قيادة حكومة شيعية في بغداد، حيث فشل “نوري المالكي” في منح امتيازات للسنة، بالإضافة إلى مجزرةٍ في مخيم للاحتجاج السلمي في الحويجة في أبريل 2014، حيث تحول إلى مقاومة مسلحة بعد مقتل أكثر من خمسين محتجًا. فمكَّن العداء السني العام اتجاه المالكي كمناصر للطائفية، مكَّن “داعش” من ربح حوالي ثماني جماعات سنية محاربة كانت تحاربها في السابق، كحلفاء لها.[16]

إن الاختلاف الذي يميز “داعش” عن التنظيم الأم “القاعدة”، أن القاعدة تركز “جهادها” على إخراج غير المسلمين والتي تعني بهم القوات الأجنبية بشبه الجزيرة العربية من المنطقة، ومحاربة العدو الأول أي الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبرها العدو الأكبر للإسلام والمسلمين، أما “تنظيم الدولة الإسلامية” فقد تطور طموحه إلى إقامة دولة إسلامية أو “دولة الخلافة” كما يسمونها، فالاختلاف حاصل في الأهداف السياسية، أما الأمور العقائدية ومن حيث الحكم بما يرونه تطبيقًا لأحكام الشريعة ليس فيه خلاف، كما أن ظروف المنشأ لا تختلف كثيرًا، فالحرب الأفغانية السوفيتية، خلفت ورائها تنظيم “القاعدة” الذي تشكل من مجموعة من الجهاديين الذين ذهبوا لقتال القوات السوفيتية بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية، وتنظيم “داعش” نتج عن الحرب الأمريكية على “الإرهاب” في العراق، أي أن الحروب غير العادلة، والتي تتجاوز مبادئ القانون الدولي، هي المسبب الرئيسي في تكاثر الجماعات المسلحة المتطرفة والتي يصنفونها في خانة “الإرهاب”.

لقد تضاعف العنف المصنف في خانة “الإرهاب” أربع مرات منذ الحادي عشر من سبتمبر، وتُعتبر دول العراق وأفغانستان وباكستان من أكثر الدول المتأثرة به، وذلك حسب دراسة قام بها معهد “علم الاقتصاد والسلام” -مركز أبحاث أمريكي أسترالي- حيث أشارت الدراسة إلى سقوط 7473 قتيل سنة 2001 بانخفاض 25% عن سنة 2007 الذي شهد ارتفاعًا مهولًا في الوفيات جراء العمليات “الإرهابية،. وأكدت الدراسة على أن التدخلات العسكرية الأمريكية في إطار “الحرب على الإرهاب” هي السبب في تفاقم الأوضاع الأمنية في العالم، وقال الرئيس التنفيذي لمعهد الاقتصاد والسلام “ستيف كيليليا” أنه: “بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001 تراجع النشاط الإرهابي إلى ما قبل مستويات العام 2000 حتى غزو العراق والأمر منذ ذلك الحين في تصاعد كبير.”[17]

لم يتم الإقرار بتفاقم قوة وامتداد هذه التنظيمات الجهادية التي تنشط في سورية والعراق من قبل السياسيين الغربيين والإعلام الغربي إلا في وقت قريب، وذلك بسبب أن الحكومات الغربية وقواها الأمنية تحدد خطر الجهاديين على أنهم ينتمون إلى تلك القوات التي تسيطر عليها القاعدة المركزية، وهذا يمكنهم من تقديم صورة أكثر وردية عن نجاحاتهم في ما يسمى “الحرب على الإرهاب” بدلا من إعطاء ضمانات مبنية على براهين، فالجماعات الجهادية القريبة إيديولوجيا من القاعدة أعيد تصنيفها على أنها معتدلة في حال اعتبرت أعمالها داعمة لسياسة وأهداف الولايات المتحدة الأمريكية.[18]

لقد ساهمت العديد من العوامل في تفاقم الوضع الأمني، وتزايد عدد الجماعات المسلحة باختلاف ولاءاتها حسب مصلحة القادة العسكريين لكل فصيل، وكذلك مصادر التمويل، حيث كان المقاتلون المنضمون من بلدان أخرى لأجل “الجهاد”، في بعض الأحيان يقاتلون بعضهم بعضًا دون معرفة، رغم أنهم قَدِموا من أجل هدف واحد، وذلك حسب ولاء الجماعة التي انضموا إليها، والحدود التي عبروا منها.

خاتمة:

لقد لعبت الولايات المتحدة الأمريكية لعبة سياسية ماكرة في الشرق الأوسط، من أجل تفكيك دُوله وإضعافها بشتى الوسائل، وتدمير حضارات عمرت ألاف السنين، وذلك باستعمال خدعة ما سمي “الحرب على الإرهاب”، حيث قامت باحتلال دُول، وزرع الفتن في أخرى، حتى أصبحت المنطقة مرتعًا للجماعات المسلحة المتطرفة.

فالغطرسة الأمريكية، وغياب عدالة دولية، ساهم في بروز نجم تنظيم “القاعدة” بحجة الدفاع عن المسلمين المستضعفين، وتنظيم “داعش” ظهر بغياب معالم الدولة في العراق وسورية.

[1]تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام: هو تنظيم مسلح يوصف بالإرهاب، يتبني الفكر السلفي الجهادي، يهدف أعضاءه -حسب اعتقادهم- إلى إعادة “الخلافة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية”. ينتشر التنظيم في سورية والعراق وله فروع في اليمن وليبيا وسيناء وأزواد ونيجيريا، يتزعم التنظيم والذي هو منشق عن تنظيم القاعدة “أبو بكر البغدادي”. ويسمي التنظيم نفسه الآن الدولة الإسلامية فقط. ويرمز له بـ “داعش” اختصارًا. للمزيد من التفاصيل ar.wikipedia.org/wiki/ داعش

[2]– عثمان علي حسن ويسي، “الإرهاب الدولي ومظاهره القانونية والسياسية في ضوء أحكام القانون الدولي العام”، دار الكتب القانونية، 2011، ص 318.

[3]– عثمان علي حسن ويسي، الإرهاب الدولي،

[4]– د. مازن شندب، “استراتيجية مواجهة الإرهاب “، المؤسسة الحديثة للكتاب، الطبعة الأولى 2014، ص 57-58.

[5]– حسن ظاهر، “معجم المصطلحات السياسية والدولية”، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والتوزيع والنشر، الطبعة الأولى 2011، ص:23.

[6]– محمد تاج الدين الحسيني، “مساهمة في فهم ظاهرة الإرهاب الدولي“،

[7]الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، متوفرة على موقع الجامعة العربية     www.lasportal.org

[8]– محمد وليد أحمد جرادي، “الإرهاب في الشريعة والقانون”، دار النفائس، طبعة أولى 2008، ص:35.

[9]– د. مازن شندب، استراتيجية مواجهة الإرهاب، المؤسسة الحديثة للكتاب، الطبعة الأولى 2014، ص280-281.

[10]– أسامة بن لادن: ولد يوم 10 مارس 1957 في أرقى حي بمدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، عُرف بتدينه منذ شبابه، بدأ رحلة جهاده على الحدود الباكستانية الأفغانية لمقاتلة الجيش الأحمر السوفيتي سنة 1979 بمباركة وكالة الاستخبارات الأمريكية، بعد ذلك أصبح عدوها الرئيسي خاصة بعد عدة عمليات تفجيرية نفذها تنظيم القاعدة ضد المصالح الأمريكية، لتكون أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي اتُهم بالتدبير لها، بداية عملية البحث عن قتله من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أعلن الرئيس الأمريكي أوباما رسميًا عن مقتله من طرف القوات الأمريكية في 1 مايو 2011. Le monde hors –série. La décennie Ben Laden.   Juillet septembre 2001 page 58

[11] – د. حنان السيد عبد الهادي، النظام القانوني الدولي في ظل هيمنة القطب الواحد، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى 2013، ص:309-310.

[12] – colombe comus, La guerre contre le terrorisme dérives  sécuritaires et dilemme démocratique, Edition de félin 2007, Page:25.

[13] – سكاي نيوز عربية، مقال صحفي بعنوان “واشنطن تخلصت من ثلثي تنظيم القاعدة“، الأربعاء 12 ديسمبر 2012 www.skynewsarabia.com.  .

[14] – محمد برهومة، عوامل صعود السلفية الجهادية في بلاد الشام، مقال منشور على مجلة السياسة الدولية، عدد 177، يوليو 2014، من ص 46 إلى 51. ص 49.

[15] – باتريك كوكبيرن، داعش عودة الجهاديين، ترجمة ميشلين حبيب، دار الساقي، الطبعة الأولى 2015 ص 48.

[16] – باتريك كوكبيرن، داعش عودة الجهاديين، ترجمة ميشلين حبيب، دار الساقي، الطبعة الأولى 2015، ص 49-50.

[17]الإرهاب تضاعف 4 مرات في 10 أعوام، مقال صحفي منشور على موقع أبو ظبي- سكاي نيوز عربية، الثلاثاء 4 ديسمبر 2012.

 www.skynewsarabia.com.

[18] – باتريك كوبرين، داعش عودة الجهاديين.

للتحميل من هنا

 

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات ©2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى