الاصداراتمتفرقات 1مقال رأي

الاسلام في إدارة الاقتصاد والتنمية

8520

”إجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم” صدق الله العظيم

عندما طلب يوسف ـ عليه السلام ـ هذا الطلب، كانت مصر تمر بمرحلة اقتصادية سيئة، وتنذر بمجاعة كبيرة تحصد الأرواح وتهلك الحرث والنسل، يوسف الصديق تقدم بطلبه لتسلم وزارة الاقتصاد وهو يضع في ذهنه المبادئ الكلية للقيم الإنسانية وللروح الدينية حتى يتجاوز بها الأزمة الاقتصادية.
في وقت الكوارث والمحن، تُختبر المبادئ وتُبتلى القيم، والقانون الخالد أن الله ينصر الدول العادلة ولو كانت كافرة، فأزمة تباشر حياة الناس وتمس مصالحها عن قرب، لا يمكن لقيادتها أن تتلاعب في مصالحهم وتجازف في قيم العدالة والمساواة، وإلا فإن الجياع لا عقال لهم، وفي القِدم قال أبو ذرٍ الغفاري: “عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولم يخرج على الناس شاهرًا سيفه”، حتى أن عمر بن الخطاب وازن بين حقوق الناس وواجباتهم عندما مروا بعام الرمادة، وأسقط عنهم حد السرقة نظرًا لعجزه عن سد بطون الجياع، وقد قال لواليه يومًا، ماذا تفعل لو جاءك سارق؟ قال أقطع يده، فقال لواليه وإذا جاءني جائع قطعت يدك.
هذا ما يُسمى بروح الأحكام وجوهر الدين، وهو ما يُمكّن القيادة من تحقيق العدالة الاجتماعية في خططهم الاقتصادية دون أن يكون الدين عائقًا لخط سير رؤيتهم نحو القضاء على المجاعة والفقر وتحقيق كرامة الناس واكتفاءهم الاقتصادي.
لقد قام يوسف النبي بدراسة السلوك الاقتصادي للأفراد والمجتمعات كالإنتاج والاستهلاك والادخار وآلية تبادل السلع والخدمات، مكنته من تكوين رؤية علمية شاملة ووضع برنامج اقتصادي عملي، تقوم عليه مبادئ علم الاقتصاد الذي تطور حديثًا.
ومن هنا نرى النبي يوسف كيف استطاع أن يدمج مفاهيم الاقتصاد التي عُرفت حديثًا في مشروع تحقيق العدالة الاجتماعية الذي كونه في مصر قديمًا. وبالتالي استخدم يوسف النبي أهم مكونات الاقتصاد الحديث من كفاءة اقتصادية، وتعني إنتاج السلع والخدمات بالكميات التي يريدها المجتمع حيث اقترح بزرع سبع سنوات متتالية لإنتاج كمية كافية للسنوات اللاحقة.
والعدالة في التوزيع، والتي تعني توزيع الدخل أو الناتج القومي بين أفراد المجتمع بطريقة عادلة، تأخذ في حسبانها كل فئات المجتمع وطوائفه وأديانه دون تمييز أو محاباة.
وإذا تأملنا قصة يوسف عليه السلام نجد أن يوسف عندما تولى زمام الأمر في مصر، لم يعالج مشاكل حكومته المالية بفرض نظام ضرائب مهلك ومرهق لمواطني دولة تدخل حالة من المجاعة الجماعية.
ولم يقم عليه السلام بتصنيف الشعب في قائمة حزبية إلى موالية ومعادية، يعطي الأولى ويمنع الثانية بل كانت مسطرته العدل وميزانه المساواة حتى مع أخوته الذين ظلموه وألقوه في اليم صغيرًا.
وعمل محافظًا على حالة التوازن المجتمعي بتحمل المسؤولية كاملًا دون إلقاء اللوم وأسباب الأزمة على مكونات المجتمع المختلفة من قوى سياسية أو مؤسسات مدنية أو شخصيات تكنوقراطية، ولم يحمل عوامل الكارثة إلى قوى دولية خفية وأو مؤامرات عالمية تُشغله عن مهمته الرئيسية وواجبه الأساسي، فالناس لم تنتظر من يوسف خطابات سياسية وتصريحات إعلامية عن الأزمة ومسببيها، بل ارتقبت أفعاله وحلوله العملية.
عندما أدرك يوسف سيكولوجيا الجماهير، وطبيعة سلوكهم وقوانين النفس المجتمعية، تجاوز الخطابات إلى المخططات، ومن السكون إلى الديناميكية، ومن التسكينات الإعلامية إلى الإنجازات الميدانية، ومن خطاب الصبر والمصابرة إلى برامج العمل وابتكار الحلول…!
“قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون (47) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون (48) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.
كانت خطته عليه السلام عبقريةً بالنسبة إلى عصرها، تتضمن قواعد الادخار الحكومي وأصول التسجيل المحاسبي في الدفاتر المحاسبية والسجلات التجارية، وأشارت خطته إلى دورة حياة الاقتصاد من حيث جدليتي الرواج والكساد.
والجدير ملاحظته أن أزمته كانت اقتصادية دنيوية وليست دينية آخروية، فجاءت الخطة مستجيبة لشكل التحدي وقانونه، وكانت ساحة علاجه الدنيا وليست الآخرة وأدواته اقتصادية دنيوية وليست مواعظ آخروية،
كان بمقدور يوسف النبي استدعاء آلام الماضي وتقديم إنجازات القديم للناس، أو سحبهم من الدنيا إلى الآخرة عبر كم هائل من مواعظ الصبر والتثبيت، لكنه علِم يقينًا أنه لن يخلصهم هلاك الموت المرتقب، فتخلص من الأنا والأيديولوجيا الدينية وتجرد لصالح المجموع، فكانت النتيجة عدالة اجتماعية ورخاء اقتصادي ونمو تجاري وازدهار عمراني.
وعند النظر إلى البرنامج الاقتصادي ليوسف عليه السلام نرى:
أنه برنامج شعبي وطني لا حزبي فردي، يقوم على مبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة بين مكونات الشعب المختلفة، ولم يميز البرنامج بي فئات المجتمع على خلفية الديانة أو المعتقد أو الأفكار السياسية والانتماءات الحزبية.
تضمنت خطته إجراءات عملية للقضاء على الفساد وآلياته، فقد وسع خطته الاقتصادية وطرحها للناس علانية، وجعل الفائض من المئونة لصالح عامة الناس لا خاصة الحكام والعاملين عليها، ويحق لكل مواطن أن يحصل على قوته بالكمية والمقدار المحدد بناء على معايير تضمن وصول الطعام إلى كافة المواطنين بعدالة ونزاهة وشفافية تامة، وجعل لكل شخص بطاقة شخصية يتم من خلالها تنظيم عملية التوزيع بالتعرف من خلالها على الكمية التي حصلة عليها حامل البطاقة، وبالتالي تخلص يوسف من العشوائية والفوضى التي تنتج نتيجة عن سوء الإدارة والعمل الإداري.
 
كما يمكن ملاحظة أن أغلب هذه البنود طٌرحت في نموذج ماركس في الاقتصاد الاشتراكي في معظم الدول الاشتراكية، وهذا يؤكد أن الديانات والأفكار سواء سميناها سماوية أو غير سماوية، فلسفات مثالية أو مادية، حملت في طياتها مبادئ العدالة الاجتماعية، وهنا يكمن التمسك بالجوهر وليس الهواش في تطبيق الأديان، ومعظم الاختلافات بين البشر لا تأتى على خلفية خلافهم حول الدين نفسه بل حول الفهم الذي تَكوّن عن الدين عبر الموروث الفقهي والتاريخي الذي أراده البعض أن ينتشر ربما ليخدم مصالحهم السياسية في وقت معين ليس أكثر.
 
الكاتب جواد حرب

للتحميل من هنا

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز برق للأبحاث والدراسات

جميع الحقوق محفوظة لدى مركز برق للأبحاث والدراسات © 2016

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى